فصل: فصل في ذكر الأقوال الفاسدة في نقد الكلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سر الفصاحة **


  فصل في ذكر الأقوال الفاسدة في نقد الكلام

ذهب قوم من الرواة وأهل اللغة إلى تفضيل أشعار العرب المتقدمين على شعر كافة المحدثين ولم يجيزوا أن يلحقوا أحداً ممن تأخر زمانه بتلك الطبقة وإن كان عندهم محسنا واختلفوا في علة ذلك‏.‏

فزعمت طائفة من جهالهم أن العلة فيه هي مجرد التقدم في الزمان واستمر في الترتيب فجعلوا الشعراء طبقات بحسب تواريخ أعصارهم‏.‏

وقال قوم منهم‏:‏ السبب في ذلك أن المتقدمين سبقوا إلى المعاني في أكثر الألفاظ المؤلفة وفتحوا طريق الشعر وسلك الناس فيه بعدهم وجروا على آثارهم فلهم فضيلة السبق التي لا توازيها فضيلة ولا توازنها مرتبة وإذا كان غيرهم قد استفاد منهم وأخذ ألفاظهم وأكثر معانيهم فلن يكون في الرتبة لأعقابهم وإذا كان مقصراً عنهم فشعره دون أشعارهم‏.‏

وقالت طائفة أخرى‏:‏ إن العلة في تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين أن هذه الأشعار المتقدمة كانت تقع من قائلها بالطبع من غير تكلف ولا تصنع والأشعار المحدثة تقع بتكلف وتعمل وما وقع بالطبع أفضل مما صدر عن التكلف‏.‏

قالوا‏:‏ ولهذه العلة استدل بأشعار المتقدمين دون أشعار المحدثين واحتاج هؤلاء كلهم في نقد الشعر إلى معرفة قائله قبل أن يظهر لهم مذهب فيه حتى رووا عن ابن الأعرابي انه أنشد أرجوزة أبي تمام وعاذل عذلته في عذله فظن أني جاهل من جهله على إنها لبعض العرب فاستحسنها وأمر بعض أصحابه أن يكتبها له فلما فعل قال إنها لأبي تمام‏.‏

فقال‏:‏ خرق خرق فخرقها‏.‏

وعن لأصمعي أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد‏:‏ هل إلى نظرة إليك سبيل فيروى الصدى ويشفى الغليل إن ما قل منك يكثر عندي وكثير ممن يحب القليل فقال له الأصمعي‏:‏ لمن تنشدني فقال لبعض الأعراب فقال هذا والله هو الديباج الخسرواني قال‏:‏ فإنهما لليلتهما قال‏:‏ لا حرم والله إن آثار الصنعة والتكلف بين عليهما وذهب غير هؤلاء من أهل العلم بالشعر فقال‏:‏ إن الطرق في نقد الشعر ما قدمناه من نعوت الألفاظ والمعاني فأما قائله وتقدم زمانه أو تأخره فلا تأثير له في ذلك لأن القديم كان محدثاً والمحدث سيصير قديما والتأليف على ما هو عليه لا يتغير وفي المحدثين من هو أشعر من جماعة من المتقدمين وفي المتقدمين من هو أشعر من جماعة من المحدثين‏.‏

وإلى هذا كان يذهب أبو عثمان الجاحظ وأبو العباس المبرد وأبو عبادة البحتري وأبو العلاء بن سليمان آنفاً وهو الصحيح الذي لا يعترض العاقل فيه شك ولا شبهة وسنتكلم على ما تعلقت به تلك الطائفة من الشبه الفاسدة‏.‏

أما من ذهب إلى تفضيل المتقدم بمجرد تقدم زمانه فإنه لم يذهب في ذلك إلى علة غير مجرد الدعوى فلو قال له قائل‏:‏ شعر المحدثين أفضل لتأخر زمانهم لم يكن بين القولين فرق ثم يقال له‏:‏ ما عندك في امريء القيس أهو عندك في الطبقة الأولى من الشعراء أم ليس في الطبقة الأولى فإن قال هو في الطبقة الأولى قيل له ولم وقد كان قبله جماعة من الشعراء معروفين أحدهم ابن حذام الذي قيل إنه أول من بكى على الديار وذكره امرؤ القيس في شعره فقال‏:‏ عوجا على الطلل المحيل لعلنا تبكى الديار كما بكى ابن حذام وإذا كان زمان امرئ القيس قد تأخر عن زمان جماعة من الشعراء فيجب تفضيلهم عليه لأنك قلت إنما يفضل بتقدم الزمان فقط‏.‏

فإن قال ليس امرؤ القيس في الطبقة الأولى بل من كان قبله أشعر وأحق بالتقدم قيل أولاً إن هذا خلاف لكافة من يفضل أشعار المتقدمين على المحدثين لأنهم ما اختلفوا في أن امرأ في الطبقة الأولى‏.‏

ثم خبرنا عن الطبقة التي امرؤ القيس منها أعرفت أن مواليدهم في وقت واحد حتى قطعت على أنهم طبقة لنساويهم في زمان الوجود فاق قال نعم‏!‏ كذب لأن في تلك الطبقة قوماً لم يلحق أحد منهم زمان الآخر وقد جعل الأعشى فيهم وهو بعد امرئ القيس بمدة طويلة وإن قال لا يراعى في تفضيل المتقدمين على المحدثين قليل الزمان وإنما المؤثر في ذلك الزمان الكثير‏.‏

قيل له‏:‏ فحبرن عن من بينه وبين الأعشى من الزمان مثل ما بين الأعشى وامرئ القيس أيجوز أن يجعل شعره في طبقة شعر الأعشى‏.‏

فإن قال‏:‏ لا قيل له ولم وأنت قد ألحقت الأعشى يامرئ القيس وبينهما مثل ذلك من الزمان واعتللت بأنه لا يؤثر‏.‏

فكيف صار بعد الأعشى مؤثراً في الحاق من بعده به‏.‏

وإن قال‏:‏ يجوز أن يجعل في طبقة الأعشى من كان بعده بمثل الزمان الذي بينه وبين امرئ القيس‏.‏

قيل‏:‏ أيجوز أن يجعل في طبقة هذا الشاعر من كان بعده بمثل الزمان الذي بين الشاعر الأول والأعشى فإن قال لا يسأل عن السبب في ذلك‏.‏

وقيل له ما قيل في الشاعر الأول ولا سبيل له إلى الفرق وإن قال نعم ألزم أن يكون شعر بعض شعرائنا اليوم في طبقة امرئ القيس بهذا الترتيب والنسق وأن يجعل الشعر في طبقة ما هو قبله والأول في طبقة طبقة ما هو قبله حتى يكون بعض شعرائنا اليوم وامرؤ القيس في طبقة واحدة هذا خلاف ما يذهبون إليه‏.‏

ويقال له‏:‏ خبرنا عنك لو أنك في زمان امرئ القيس ووقفت على شعره أكان رأيك فيه هو رأيك اليوم فإن قال نعم قيل له ولم وأنت إنما تختاره اليوم وتفضله بقدمه فإن كان في ذلك الوقت محدثاً عندك فحكمه حكم المحدث اليوم‏.‏

وإن قال‏:‏ بل كنت أذهب فيه إلى غير ما أذهب اليوم قيل له فهل تأليفه على ما كان عليه أم تغير عما كان عليه‏.‏

فإن قال‏:‏ تغير قيل فهو إذاً غير ما ألفه امرء القيس وهذا ما لا يقوله أحد وإن قال بل هو بحاله في الأكثر‏.‏

قيل له‏:‏ فيجب أن يكون بحاله على صفة ثم يصير هو بحاله على صفة أخرى من غير أن يزيد شيئاً ولايعقل فيه وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين من حيث سبقوا إلى المعاني والألفاظ ونزل الناس بعد على سكناتهم فإنه يقال له‏:‏ هذا لو ثبت لدل على فضل المتقدمين على المحدثين ولم يدل على فضل شعر هؤلاء على هؤلاء لأنه ليس كل من كان أفضل وجب أن يكون شعره أحسن وهذا الخليل هو الغاية في الذكاء والفطنة بعلوم العرب وشعره في انزال طبقة وكذلك غيره من العلماء بهذه اللغة والأمر في هذا واضح لا يحتاج إلى دليل ثم يقال له‏:‏ ما تريد بالمعاني التي سبقوا إليها أتريد جميع معاني أشعار المحدثين أو بعضها فإن قال‏:‏ جميعها قيل هذا جحد العيان لأن الأمر في تفرد المحدثين بمعان استبطوها لم تخطر للعرب المتقدمين على بال أظهر من كل ظاهر وإن قال بعض المعاني‏.‏

قيل‏:‏ إن تلك المعاني التي سبق المتقدمون إليها وأخذها منهم المحدثون لا يخلو الأمر فيها من أن يكونوا نظموها بحالها أو زادوا عليها أو نقصوا منها فإن كانوا زادوا فلهم فضيلة الزيادة كما كان لاؤلئك فضيلة السبق وإن كانوا نقصوا فالمتقدمون في تلك المعاني خاصة أفضل منهم وإن كانوا نقلوها بحالها فتلك هي معاني المتقدمين لا يستحق المحدثون عليها حمداً ولا ذماً أكثر مما يجب في الأخذ والنقل‏.‏

وهذا كله يرجع إلى الشعراء دون نفس الشعر لأن المعنى في نفسه لا يؤثر فيه أن يكون غريباً مخترعاً ولا منقولاً متداولاً ولا يغيره حال ناظمه المبتدئ المبتدع أو المحتذى المتبع وإنما هذا شئ فأما الألفاظ فإن كان يريد الألفاظ المفردة فتلك ليست لأحد والمحدث فيها والمتقدم واحد وإن كان يريد الألفاظ المؤلفة فإن المحدثين إذا أخذوا ألفاظاً قد ألفها ناظم قبلهم لم يؤثر فيها أخذهم لها حتى يقال إنها في شعر الأول أحسن منها في شعر الآخر بل تكون بمنزلة قصيدة شاعر ينتحلها آخر فلا يقال إن الانتحال أثر فيها‏.‏

فإن كان هذا واضحاً فمن أين يدل سبق المتقدمين إلى بعض المعاني على فضل أشعارهم على أشعار المحدثين الذين سبقوا إلى أضعاف تلك المعاني لولا عدم التوفيق وفرط الجهل‏.‏

وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين من حيث كانوا لم يتكلفوا أشعارهم وإنما نظموها بالطبع والمحدثون بخلاف ذلك فإنه يقال له‏:‏ ما الدليل على أن أشعار المتقدمين كانت تقع من غير تكلف‏.‏

فإن قال بهذا جاءت الروايات عنهم قيل‏:‏ الأمر بخلاف ذلك والمروى عن زهير بن أبي سلمى أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين وكان يسميها الحوليات ويقول خير الشعر الحولى المحكك والرواة كلهم مجمعون على هذا غير مختلفين فيه وإذا فضلوا شعر زهير قالوا‏:‏ كان يختار الألفاظ ويجتهد في إحكام الصنعة‏.‏

وإذا وصفوا الحطيئة شبهوا طريقته في الشعر بطريقة زهير ويروون زهيراً كان يعمل نصف البيت ويتعذر عليه كماله فيتمه كعب ابنه‏.‏

وهذا كله بمعزل عن الطبع وسهولة النظم ولو لم يدل على ذلك إلا قلة أشعارهم - فإن ديوان بعض هؤلاء المحدثين مثل أشعار جماعة من المتقدمين في الكثرة - لكفى ذلك في تكلفهم للشعر ونصبهم فيه‏.‏

ثم يقال له‏:‏ خبرنا عن هذا التكلف الذي ذكرته أهو ببن موجود في الشعر أو غير بين موجود فيه فإن قال‏:‏ ليس بموجود فيه قيل‏:‏ فلا تفضل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين بشئ غير موجود فيها وإن قال بل هو موجود في أشعار المحدثين دون المتقدمين‏.‏

قيل‏:‏ أتذهب إلى أن التكلف موجود في جميع أشعارهم أو في بعضها فإن قال في جميعها كابر لأن من يزعم أن جميع أشعار المحدثين مع السهولة في أكثرها والتيسر متكلفة وجميع أشعار المتقدمين مع التوعر في أكثرها غير متكلفة فهو جاحد للضرورة لا تحسن مناظرته وإن قال‏:‏ بعض أشعار المحدثين متكلفة وبعضها غير متكلف قيل‏:‏ وكذلك أشعار المتقدمين فقد تساووا عندك في هذه القضية وبطل تفرد المحدثين بالتكلف الذي ذكرته‏.‏

فأما الاستشهاد بأشعار هؤلاء المتقدمين فقد بينا فيما مضى من هذا الكتاب سببه وقلنا أن تقدم الزمان غير موجب لذلك وإنما موجبه أن العرب الذين يتكلمون باللغة العربية ولا يخالطلون أحداً ممن يتكلم بغير لغتهم هم الذين أقوالهم حجة في اللغة والعرب الذين خالطوا غيرهم من العجم وفسدت لغاتهم بالمخالطة لا يستدل بكلامهم فلما كان العرب المتقدمون قبل الإسلام وفي الصدر الأول منه لا يخالطون في الأكثر غيرهم كانت أقوالهم في اللغة حجة ولما صاروا بالملك والدولة يخالطلون غيرهم ويحضرون ويسكنون المدن لم يستدل بلغتهم‏.‏

ولهذا السبب كان أبو عمرو بن العلاء يعيب جريراً والفرزدق بطول مقامهما في الحضر وأبطل الرواة الاحتجاج بشعر الكميت بن زيد والطرماح لأنهما كانا حضريين على هذا فلوم فرضنا اليوم أن في بعض القفار النائية عن العمارة قوماً من العرب لا يخالطون غيرهم وكانوا قد أخذوا اللغة عن مثلهم وكذلك إلى حين ابتداء الوضع لوجب أن يكون قولهم حجة كأقوال المتقدمين وإن كانوا محدثين‏.‏

وإذا كان هذا مفهوماً فليس يوجب صحة الكلام بالعربية حسن النظم لأن ذلك لو وجب لكان كل عربي شاعراً والأمر بخلاف ذلك والشعراء من العرب المتقدمين بالإضافة إلى من ليس بشاعر جزء من الوف ألوف‏.‏

وقد ذكرت في نقد الكلام أن لا يكون المعنى فاحشاً وعيب شعر أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج بنا تضمنه من فحش المعاني وليس الأمر عندي على ذلك لأن صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل ويطلب في كل واحد منها صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حد واحد وليس لكون المعنى في نفسه فاحشاً أو جميلا تأثير في الصناعة ولهذا ذهب قوم إلى استحسان المعنى الغريب وليس للأختراع في المعنى نفسه تأثير إلا كما للمتداول وقد أومأنا إلى هذا فيما تقدم وبينا أنه شئ لا يرجع إلى الشعراء دون المعاني والشبهة في مثل هذا ضعيفة جداً‏.‏

وذهب قوم أيضاً إلى حسن الترديد وهو أن يعلق الشاعر لفظة في البيت بمعنى ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر كما قال زهير‏:‏ من يلق يوماً على علاته هرماً يلق السماحة منه والندي خلقاً وقال أبو نواس‏:‏ صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء وهذا عندي لا تعلق له بالنقد لأن التأليف في هذا الترديد كسائر التأليف في الألفاظ التي لا يستحق به حمداً ولا ذماً ولا يكسبها حسناً ولا قبحا‏.‏

وقد صنف قوم في نقد الشعر رسائل ذكروا فيها أبواباً من الصناعة لا تخرج عما ذكرناه في كتابنا هذا إلا انهم ربما جعلوا للمعنى الواحد عدة أسماء كالترصيع الذي يسمونة ترصيعاً وموازنة وتسميطا وتسجيعاً وهو كله يرجع إلى شئ واحد وإذا وقف على ما صنفوه في هذا الباب وجد الأمر فيما قلنا ظاهراً والتكرير بينا واضحا وقد يذهب كثير ممن يختار الشعر إلى تفضيل ما يوافق طباعه وغرضه ويذهب قوم إلى اختيار ما لم يتداول منه حتى يكون للوحشى الذي لم يشتهر مزية عندهم على المعروف المحفوظ ويخالفهم آخرون فيختارون ساير الشعر على خامله ومشهوره على مجهوله ويستحسن قوم الشعر لأجل قائله فيختارون أشعاره السادات والشارف ورؤساء الحروب ومن يوافقهم في النحلة والمذهب ويمت إليهم بالمودة أو النسب وهذه كلها أقوال صادرة عن الهوى ومقصورة على محض الدعوى من غير دليل يعضدها ولا حجة تنصرها والطريق الذي يؤدى إلى المقصود من معرفة المختار الألفاظ والمعاني هو ما ذكرناه ونبهنا عليه ومن تأمله علم الإصابة فيه بمشيئة الله وعونه‏.‏

  فصل في ذكر الفرق بين المنظوم والمنثور وما يقال في تفضيل أحدهما على الآخر

أما حد النثر‏:‏ فهو حد الكلام الذي ذكرناه في هذا الكتاب وأما حد الشعر فهو كلام موزون مقفى يدل على معنى وقلنا‏:‏ كلام ليدل على جنسه‏.‏

وقلنا‏:‏ موزون لنفرق بينه وبين الكلام المنثور الذي ليس بموزون وقلنا‏:‏ مقفى لنفرق بينه وبين المؤلف الموزون الذي لا قوافي له‏.‏

وقلنا‏:‏ يدل على معنى لنحترز من المؤلف بالقوافي الموزون الذي لا يدل على معنى‏.‏

وسمى شعراً من قولهم شعرت بمعنى فطنت والشعر الفطنة كأن الشاعر عندهم قد فطن لتأليف الكلام وإذا كان هذا مفهوماً ما فأ قل ما يقع عليه اسم الشعر بيتان لأن التقفية لا تمكن في أقل منهما ولا تصح في البيت الواحد لأنها مأخذوة من قفوت الشيء إذا تلوته وقد ذهب العروضيون إلى أن أقل ما يطلق عليه اسم الشعر ثلاث أبيات وليس الأمر على ما ذهبوا إليه لأن الحد الصحيح قد ذكرناه وهو يدل على أن البيتين شعر فأما اعتلال بعضهم بأن البيتين قد يتفقان في كلام لا يقصده قائله الشعر ولا يتفق ثلاثة أبيات فيما لا يقصد مؤلفه الشعر فاعتلال فاسد لأنه إن كان يريد بالبيتين مثل قول امرئ القيس‏:‏ فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما سنجته من جنوب وشمأل فذلك لا يتفق إلا في كلام يقصد به الشعر وإن كان يريد بالبيتين مثل ما استشهد به من قول العامة‏:‏ زمارة مليحة بقطعة صحيحة فقد يتفق من هذا الجنس ثلاثة أبيات في كلام لا يقصد به الشعر فالذي ذكره دعوى لا دليل عليها‏.‏

وإذا كان هذا بيناً فالفرق بين الشعر والنثر بالوزن على كل حال وبالتفقية إن لم يكن المنثور مسجوعاً على طريق القوافي الشعرية والوزن هو التأليف الذي يشهد الذوق بصحته أو العروض‏.‏

أما الذوق فلأمر يرجع إلى الحس وأما العروض فلأنه قد حصر فيه جميع ما عملت العرب عليه من الأوزان فمتى عمل شاعر شيئاً لا يشهد بصحته الذوق وكانت العرب قد عملت مثله جاز له ذلك كما ساغ له أن يتكلم بلغتهم‏.‏

فأما إذا خرج عن الحسن وأوزان العرب فليس بصحيح ولا جائز لأنه لا يرجع إلى أمر يسوغه والذوق مقدم على العروض فكل ما صح فيه لم يلتفت إلى العروض في جوازه ولكن قد يفسد فيه بعض ما يصح بالعروض على المعنى الذي ذكرناه كالزحافات المروية في أشعار العرب المذكورة في كتب العروض وهو الأصل الذي عملت العرب الأول عليه‏.‏

وإنما العروض استقراء للأوزان حدث بعد ذلك بزمان طويل‏.‏

وأما التفضيل بين النظم والنثر فالذي يصلح أن يقوله من يفضل النظم أن الوزن يحسن الشعر ويحصل للكلام به من الرونق ما لا يكون للكلام المنثور ويحدث عليه من الطرب في إمكان التلحين والغناء به ما لا يكون للكلام المنثور ولهذه العلة ساغ حفظه أكثر من حفظ المنثور حتى لو اعتبرت أكثر الناس لم تجد فيهم من يحفظ فصلاً من رسالة غير القليل ولا يجد فيهم من لايحفظ البيت أو القطعة إلا اليسير ولولا ما انفرد به من الوزن الذي تميل إليه النفوس بالطبع لم يكن لذلك وجه ولا سبب‏.‏

ونقول إن الشعر يدخل في جميع الأغراض كالنسيب والمديح والذم والوصف والعتب والنثر لا يدخل في جميع ذلك فإن التشبيب لا يحسن في غير الشعر وكذلك غيره من الأغراض وما صلح لجميع ضروب الكلام وصنوفه أفضل مما اقتصر على بعضه‏.‏

وأما الذي نقوله من تفضيل النثر على النظم‏:‏ فهو أن النثر يعلم فيه أمور لا تعلم في النظم كالمعرفة بالمخاطبات وبينة الكتب والعهود والتقليدات وأمور تقع بين الرؤساء والملوك يعرف بها الكاتب أمورهم ويطلع على خفي أسرارهم وأن الحاجة إلى صناعة الكتابة ماسة والانتفاع بها في الأغراض ظاهر‏.‏

والشعر فضل يستغنى عنه ولا تقود ضرورة إليه وأن منزلة الشاعر إذا زادت وتسامت لم ينل بها قدراً عالياً ولا ذكراً جميلأن والكاتب ينال بالكتابة الوزارة فما دونها من رتب الرياسة وصناعة تبلغ بها إلى الدرجة الرفيعة أشرف من صناعة لا توصل صاحبها إلى ذلك وأن أكثر النظم إذا كشف وجد لا يعبر عن جد ولا يترجم عن حق وإنما الحذق فيه الافراط في الكذب والغلو في المبالغة وأكثر النثر شرح أمور متيقنة وأحوال مشاهدة وكثر فيه الجد والتحقيق أفضل مما كثر فيه المحال والتقريب وقد يتسع الكلام فيما لا يخرج عن هذا الفن وهذه الجملة كافية في مثل هذا الموضع

  فصل فيما يحتاج مؤلف الكلام إلى معرفته

الذي يحتاج مؤلف الكلام إليه من معرفة اللغة التي هي لغة العرب قدر ما يعرف كل شئ باسمه الذي وضعته له‏.‏

ويجب أن يكون ذلك الاسم أفصح أسمائه إن كانت له عدة أسماء وقد بينا الطريق إلى معرفة الفصيح فيما مضى من كتابنا هذا فإذا عرف ما ذكرته من اللغة احتاج إلى معرفة ما يتصرف ذلك الاسم عليه من جمع وتثنية وتذكير وتأنيث وتصغير وترخيم ليورده على جميع ما يتصرف فيه صحيحا غير فاسد ولهذا افتقر إلى علم النحو وسأذكر قدر ما يحتاج منه فإذا علم ما أشرت إليه افتقر إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر كثيراً ليجد إذا ضاق به موضع أو حظر عليه وزن إيراد اسم العدول إلى غيره‏.‏

ويحتاج في علم النحو إلى معرفة أعراب ما يقع له في التأليف حتى لا يذكر لفظة إلا موضوعة حيث وضعتها العرب من إعراب أو بناء على حسب ما وردت عنهم وليس لأحد أن يظن أن هذا هو معرفة النحو كله والإشتمال على جميع علمه لأن الكثير من النحو علم تقدير مسائل لا تقع اتفاقا في النظم ولا في النثر وكذلك التصرف من علم النحو لا يكاد مؤلف الكلام يحتاج إلا إلى الشئ اليسير منه فأما أن يكثر منه حتى يسوغ له أن يبنى من الدال في قد مثل عصفور وغير ذلك من مسائل قد وضعت في هذا الجبس فما لا أرى النحوى يفتقر إلى معرفته فضلا عن غيره‏.‏

ويحتاج الشاعر خاصة إلى معرفة الخمسة عشر بحرا التي ذكرها الخليل ابن أحمد وما يجوز فيها من الزحاف ولست أوجب عليه المعرفة بها ولينظم بعلمه فإن النظم مبنى على الذوق ولو نظم بتقطيع الأفاعيل جاء شعره متكلفاً غير مرضى وإنما أريد له معرفة ما ذكرته من العروض لأن الذوق ينبو عن بعض الزحافات وهو جائز في العروض وقد ورد للعرب مثله فلولا علم العروض لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وبين ما لا يجوز‏.‏

ويفتقر أيضاً من العلم بالقوافي إلى معرفة الحروف والحركات التي يلزم اعادتها وما يصلح أن يكون روياً أو ردفاً مما لا يصح‏.‏

ويحتاج أيضاً إلى معرفة المشهور من أخبار العرب وأحاديثها وأنسابها وأمثالها ومنازلها وسيرها وصفة الحروب التي كانت لها وما له قصة مشهورة وحديث مأثور فإنه قد يفتقر في النظم إلى ذكر شئ منه ويكون للمعنى به تعلق شديد وإذا ورد استحسن‏.‏

ويحتاج الكاتب إلى جميع هذا أيضاً ويختص بما يفتقر إليه من معرفة المخاطبات وفنون المكاتبات والتوقيعات ورسوم التقليدات مع الاطلاع على كتاب الله تعالى وشريعته وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فإنه مدفوع إلى تقليد الولاة وعهود القضاة والتوقيعات في المظالم والمكاتبة في ضروب الحوادث‏.‏

وبالجملة أن مؤلف الكلام لو عرف حقيقة كل علم واطلع على كل صناعة لأثر ذلك في تأليفه ومعانيه وألفاظه لإنه يدفع إلى أشياء يصفها فإذا خبر كل شئ وتحققه كان وصفه له أسهل ونعته أمكن إلا أن المقصود في هذا الموضع بيان ما لا يسعه جهله دون ما إذا علمه أثر عنده علمه فإن ذلك لا يقف على غاية‏.‏

والوصية لهما لهما ترك التكلف والاسترسال مع الطبع وفرط التحرز وسوء الظن بالنفس ومشاورة أهل المعرفة وبغض الاكثار والاطالة وتجنب الاسهاب في فن واحد من فنون الصناعة فإن كلام الإنسان ترجمان عقله ومعيار فهمه وعنوان حسه والدليل على كل أمر لولاه لخفي منه وبحسب ذلك يحتاج إلى فضل التثقيف واجتماع اللب عند النظم والتأليف‏.‏

وإذ قد انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فالواجب أن نختم الكتاب لأنا قد وفينا بجميع ما شرطناه في أوله وقد كنا عزمنا على أن نصله بقطعة مختارة من النظم والنثر يتدرب بالوقوف عليها في فهم ما ذكرناه من أحكام البلاغة وكشفناه من أسرار الفصاحة لكنا فرقنا من الإطالة والتثقيل على الناظر فيه بالملل والسآمة فعد لنا إلى وضع ذلك في كتاب مفرد‏.‏

ونحن تستغفر الله من خطل القول كما تستغفر من خطأ العمل ونسأله أن يمن علينا بالهداية والعصمة والسلامة في الدنيا والآخرة أنه سميع مجيب‏.‏

تم الكتاب بحمد الله ومنه وحسن توفيقه يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة من سنة خمس وستين وستمائة على يد العبد الفقير أحمد بن أبي الفتح بن محمود الشيباني تجاوز الله عنه‏.‏

والحمد لله وحده وصلاته على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

وعلى الأصل المنقول منه وهو بخط أمين الدين ياقوت الموصلي ما صورته‏:‏ وهذا حكاية ما كان في آخر نسخة الأصل بخط المصنف الشيخ أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان رحمه الله‏:‏ تم كتاب سر الفصاحة بعون الله ووقع الفراغ من تصنيفه يوم الأحد الثاني من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة ونقلت هذه النسخة من الأصل في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وأربعمائة وكتب عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان حامداً لله تعالى على نعمه ومصلياً على رسوله محمد المصطفى والأئمة الأبرار الطاهرين من عترته والله حسبه ومعينه‏.‏

آخر ما كان على أصل هذه النسخة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين وعلى آخر أصل نسخة المرحوم أحمد تيمور باشا‏:‏ كمل الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ومنه وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله أصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين ووافق الفراغ منه في الثلث منش هر ذي القعدة سنة تسع وسبعين وستمائة‏.‏

كتبه العبد الفقير إلى رحمة مولاه الغنى به عمن سواه محمد بن إسماعيل ابن عمر بن أبي بكر الحميدي الشافعي تاب الله عليه وغفر له ولمالكه وللناظرين فيه ولوالديهم ولمن دعا لهم بالمغفرة والرحمة ولجيمع المسلمين آمين‏.‏